مدونة أصـــوات

الجمعة، 22 يونيو 2012

سؤال الدعارة الرخيصة..تراجيديا الأجساد المتهدلة

"وطني وإن لم يعشقني وأنا الذميم الجلف 
كعشق فتاة لفارسها الوسيم
لم يعد وطني 
إنه سجن بلا قضبان"
باكونين
كم هو صعب هذا الذي نروم كشفه, كم هو قاس ومؤلم هذا الأخذوذ الذي سنهوي إليها جراح واقع بئيس ترفض الاندمال, ودموع مالحة تهتاج من مقل مدن وقرى غاب عنها التخطيط وهرب عنها الماء والكهرباء وأدنى شروط العيش الكريم.. فقر وفاقة وضياع باذخ يدثر المكان.. وأجساد متهدلة من بندول الزمن الرديء. 
فعلام يؤشر امتهان أقدم مهنة في العالم؟ وعلام يتفتح سؤال الدعارة الرخيصة تحديدا؟! وأينكم أيها الرافضون والمدافعون عن خطة إدماج المرأة؟ كانت أسئلة ملتهبة اصطفت قبالتنا على طول خط القديد المملح (الكاموني, تيفلت, الخميسات). إنها انعطافات شقية لواقع يرهقنا البحث في هويته, ولاختلافات مجتمعية تدعو إلى الكلام وتحطيم كل قلاع الصمت التي تسيج الظاهرة خطأ وقصدا!!
في الطريق إلى...
"باقا بلاصة" "باقا بلاصة" كان "الكورسي" يرددها بأعلى صوته, داعيا كل الراغبين في امتطاء صهوة "الحديد" إلى الإسراع قبل الإعلان عن الإضراب عن نقل الأجساد عبر طرق قاتلة يتربص بها رجال غلاظ شداد!
"لقد ضقنا ذرعا بها" قالها السائق وهو يهم بتشغيل محرك سيارته, لينطلق بنا وهو يسابق الريح ضاربا بعرض الحائط كل الوصلات الإشهارية التي تنبعث من الراديو والتي تطلب من مستعملي الطريق احترام قانون السير! لم يأبه بأغنية "سير بالمهل" ومضى يطوي المسافات طيا, وقد جلس على جانبه في المقدمة رجلان في خريف العمر يتجاذبان أطراف حديث باهت عن السوق والباطوار والفول... أما الثلاثة الآخرون الذين تزاحموا معي في الخلف فقد كانوا غارقين في تبادل كلمات مرموزة تحيل مباشرة على الجنس, كانت رائحة الإسمنت تعطر ثيابهم وأياديهم المشقوقة.. فلربما انتهوا أخيرا من عمل شاق بأحد أوراش البناء وفكروا في الذهاب إلى الكاموني أو تيفلت لتذوق طعم القديد المملح!
كان السائق يرقبهم خفية بواسطة مرآته العاكسة, وهم يتخاطفون على حبات لوز وكوكاو! بعدما اجتاز الصراط الأول عند "خرجة" سلا عمد إلى تشغيل شريط غنائي شعبي اهتز له جيران الأمام والخلف.. لكن آثار الحفل ستندفن مباشرة بعد الوصول إلى الكاموني, وبالضبط عند "الدخلة", حيث يرابط "رجال الحال" بزيهم الرمادي لحصد إتاوات الدخول والخروج على بعد أيام من الاحتفال باليوم الوطني لمحاربة الرشوة!
العرس الأسبوعي
كانت الكاموني أو سيدي علال البحراوي ترفل في أجواء عيدها الأسبوعي, إنه يوم الأحد, يوم السوق الذي تعج بالإنسان والحيوان, إنه الكرنفال الأسبوعي الذي تفتقد فيه "القرية المتمدنة" هدوءها النسبي لتلتحق هي الأخرى بضجيج العالم وقبحه الفادح.
الكاموني لا تشكل استثناء في مدن وقرى الملح المغربية, قدرها هي الأخرى شارع وحيد ما كان له أن يكون لولا إكراهات الطريق الرئيسية, تصطف على جانبه الأيمن "حوانيت" متسخة لبيع الشواء المغدور, ومقاه لا معدودة لاغتيال الوقت, وعاهات اجتماعية, لن تقدر أية إحصائيات متواطئة على أيامنا بأن الفقـر المغربي محدود فـي 13%, فهنا في مثل هذه الفضاءات يتحطم السابق من الطروح, وينكشف الزيف وتبدو الحقيقة من غير مساحيق!
الكاموني قنطرة مهترئة لزمن أضاعنا في طرقاته اليتيمة, يخيل إلى زائرها أنها تبعد بمئات السنوات الضوئية عن الرباط وسلا وليس فقط بحوالي 30 كيلومترا!! كان عرسها "الأحدي" ومع ذلك كانت تذرف دموعا مالحة تنسكب من هامش هامشها, حيث تباع الأجساد وتكترى! فبعيدا عن الشارع اليتيم تنتصب ديار غاب عنها التخطيط وخذلها المسؤولون, تستعرض عند أبوابها "نساء ونساء" أنوثتهن الباهتة أمام القادمين من السهول وحصين والمعمورة والسمايطو والرباط وسلا!!
منهن من استعمر الشيب رأسها, وفعلت التجاعيد فيها ما فعلت, ومنهن من لم تنه بعد ربيعها الثالث عشر. من كل الأجيال والألوان والأشكال.. نساء اقتادتهن الظروف إلى احتراف أقدم مهنة, ينادين على المارة, يستعملن مختلف وسائل الإغراء للظفر بالزبائن.. إنه ماركوتينغ اللذة!
مع "الميلودية"
البرد فقط هو الذي يمنعهن من "العري", ومع ذلك فقد حرصن جميعا على اختيار ما يخنق اللحم من لباس, حتى تبرز المفاتن ويقع "القادم" في الفخ! واليوم هو يوم الجوك, ولهذا لابد من استعمال كل الأساليب حتى "تطلع الرصيطة" هذا ما أخبرتني تلك السيدة التي تجاوزت الثلاثين, وتدعى الميلودية والتي أدخلتني كرها إلى جحرها, لم تكن بمفردها هناك, ففي باحة المنزل أخوات لها في المهنة يفترشن حصيرا قديما ويحتضن وسادات لا لون لها, وقد أصابتهن جميعا لعنة العري الباذخ.
وفي العمق كانت "الحاجة" سيدة المكان تقتعد كرسيا عاليا, وقد طوق "اللويز" عنقها, وتدلت من أذنيها أقراط ذهبية, كانت الحاجة تصرخ في وجه فتاة قاصر "أنا ما عنديش الأوطيل هنايا, تحركي شويا اليوم 20 درهم ماشي 10".
أدخلتني الميلودية إلى غرفة مجزأة إلى عدة غرف, يفصل بين الواحدة والأخرى "إيزار" تعلوه بقع صفراء, كانت الغرفة فارغة إلا من قطعة من "البونج الرديئ" وبعض "الشراوط", وقبل أن تبدأ في نزع ما تبقى من ثيابها الداخلية, قدمت لها 20 درهما, وأخبرتها بأنني أريد معرفة الأسباب الكامنة وراء ارتمائها في هذه المياه العكرة! "100% أنت طالب تادير شي بحث, وإذن ما كاين باس, أشنو باغي تعرف وأشنو تا تعرف؟".
"كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا", هكذا صاح سقراط ذات مرة وهو يتجول في الأسواق بحثا عن الحقيقة, وكل ما أعرف أنني لا أعرف شيئا أيتها الميلودية, فهلا تكلمت!
إغتصاب فدعارة
إسمي هو الميلودية بنت علال, أبلغ من العمر 34 سنة, جئت من دكالة, واستقر بي المطاف بالكاموني, بعدما اشتغلت في أشهر عواصم الدعارة بالمغرب: خنيفرة, القصبة, عين اللوح, آزرو, إيموزار, الحاجب, الخميسات, تيفلت, لقد دخلت هذا العالم منذ 15 سنة.. ولدت مرة واحدة وأعطيت طفلي لأناس أغنياء. لما بلغت الثامنة عشرة, اغتصبني والدي مستغلا سفر والدتي وإخوتي, حينها لم يكن أمامي إلا الهروب, لقد حطمني والدي, حاولت في البداية أن أجد عملا شريفا, لكنني فشلت, وبذلك وجدتني أمارس الدعارة في الجديدة ومنها إلى خنيفرة, وهناك تعلمت أصول "الحرفة". لكن الحاجة/ الباطرونة لم يكن ليروق لها طول جلستنا, ولهذا بدأت تصرخ وتكيل للميلودية وابلا من الإهانات, بدت علامات الاستياء واضحة على محيا الميلودية, التي لم يعد لها السواك جمالها الهارب, أرسلت لها "دعوات صالحة" همسا, وانطلقت نحو ما ينتظرها من عناء, إنه يوم الجوك!
زوج هارب
برحت المكان الموبوء, لألتحق بصخب الزقاق الذي يتقاطر عليه شيب وشباب, يبغون ممارسة الجنس, وفي الذهن تتراقص حكاية الميلودية والحاجة والفتاة القاصر والذهب واللحم المالح!
محاولا الخروج من متاهة الأجساد, إخترقت وحدتي "عاهرة" أخرى تقترح علي تعلم فنون "...." في مدرستها, استجبت لندائها رغبة في الارتواء المعرفي, كان بيتها مختلفا عن السابق, أطفال صغار يعيشون بزجاجات خمر فارغة, قذارة تملأ المكان! "أنا أعمل لحسابي" توضح السيدة فاطمة 36 سنة, لكنها سرعان ما تنخرس عندما تعلم ما جئت إليه, لكن الورقة التي أعطيتها إياها, والتي دستها جيدا في حاملة النهدين, جعلتها تتكلم وتقول "لقد هجرني زوجي منذ 5 سنوات, وأعرف أنني السبب لأنني أرهقته بالأولاد, هرب المسكين لأنه لم يعد قادرا على تغطية مصاريف البيت, حاولت في البداية أن أقوم بالدور, عملت في البيوت, وفي الأخير, لجأت إلى بيع لحمي, أعرف أن هذا حرام, ولكن الفقر "ولد الحرام", عملت عند "القوادة فاطنة" في البداية, وبالنسبة للمدخول فهو يتراوح بين 200 و250 درهم يوم الأحد, أما الأيام الأخرى فلا يتجاوز 50 درهما, وثمن الممارسة الواحدة هو 10 دراهم, ونرفعه في المناسبات إلى 15 أو 20".
القديد المنشور
في دوار الضبابة بمدينة تيفلت, قابلت من جديد الشبان الثلاثة, قرأ لي أحدهم السلام, فوجدتها فرصة سانحة للانضمام إليهم, فالتسكع الجماعي في دروب هذا "الدوار" قد يمنع عنا اعتداء محتملا لمنحرفين كثيرين استعمروا كل الزوايا لبيع الخمور والمخدرات وجمع الإتاوات من الباطرونات!
"نأتي هنا لأننا لا نريد أن نتعب أنفسنا بدوامة القنص والنكان" يصرح أصغرهم وهو يوزع نظراته وابتساماته على الأجساد المرابطة عند الأبواب المهترئة, أما صديقه الذي أمسك منه خيط الحديث, فقال "لا أستطيع الزواج حاليا, فأعباؤه ثقيلة جدا, ولن تجد بنت الناس التي يمكنها أن تصبر معك اليوم, لكنهن يردن المال والسيارة, وأنا مجرد "طالب معاشو", فكيف لي بالزواج, وبالإضافة إلى ذلك فأنا لا أستطيع الاستغناء عن حاجاتي الجنسية". في حين تساءل الثالث "لماذا نتهم صاحبات هذه المهنة بالدعارة؟ أو ليست مهنة شريفة في ظل واقع خبيث يرسل إلينا شواظا من الفقر والألم؟ ثم ألسنا نحن أيضا داعرين؟" ولم يكن صاحب هذه الأسئلة الحارقة إلا السيد (م.م) 28 سنة, الحاصل على الإجازة في الأدب العربي, والتي لم تقده إلى الوظيفة بل إلى البطالة والبغي! 
كان دوار الضبابة غارقا في احتفالات الجسد المملح بدموع الأيام البائسة, يسافر بزبنائه إلى لذائذ ممزوجة تدل على عفن الوقت, القديد المنشور على حبل غسيل لم يغتسل من كل خطاياه! منشور بشكل مختلف عن الكاموني, فهنا ترتفع "الكثافة الداعرة" بدرجات عالية, فقد تؤم الدار الواحدة أزيد من 20 "عاهرة", وهنا أيضا تنصدم العين, وربما تبتهج بموسم العري الباذخ, فلا لسعات البرد ولا حرقة الشمس يمنعان من كشف المفاتن وإلى أبعد حدود الإباحية, هنا الضباب, هنا الأخطاء كلها!
بقعة أرضية
فتيحة فتاة جميلة لم تخط بعد نحو عقدها الثاني, نشأت في أسرة يدثرها الفقر والفاقة, كان الأب قاسيا, لا يجيد إلا السب والشتم, وكانت الأم منشغلة بعشاقها الكثر, أما إخوتها فكانوا يتعلمون في وجهها الدروس الأولية في الملاكمة! لم تستطع إكمال مشوارها الدراسي, وقعت في حب شاب متلاعب, افتض بكارتها, وغادر المدينة إلى غير رجعة! عذبت وعنفت وذاقت المر لما عرفت عائلتها بالأمر, تحينت الفرصة وهربت..
من آسفي قدمت على البيضاء, حيث ضاعت في شوارعها, حتى حبلت من أحدهم, وتخلصت من جنينها بالإجهاض, واستقر بها المطاف القاسي أخيرا بتيفلت, مدخولها اليومي يصل إلى 400 درهم أحيانا, وتتوفر على حساب بنكي, وعلى بقعة أرضية أهداها إياها مسؤول جماعي, رقصت في إحدى لياليه الحمراء, إنها طموحة, تريد أن ترتقي بالدعارة إلى مستوى عال من التنظيم "ولم لا بالهاتف والمواعيد المسبقة", تقول فتيحة "أنا متأكدة من أن جمالي لا يدوم, فالواحدة منا في هذه المهنة تشيخ مبكرا, ولهذا فأنا لا أريد أن يباغثني الفقر, فليس لي اليوم وغدا من شيء إلا جسدي, أسرتي ترفضني, والواقع كله يرفضني كفتاة شريفة, الجميع يريدني جسدا فاتنا فقط".
حقوق محفوظة
وعن "رجال الحال" الذين يزورون دوار الضبابة من حين لآخر تقول المدعوة "ماريا" "فهنا في عالم الدعارة لا معنى ولا قيمة للأسماء, رجال الشرطة يواظبون على المجيء إلى الدوار ليس فقط لإلقاء القبض على المتلبسين بتهمة الفساد, بل لاستلام حقهم, إنهم يأخذون من الباطرونات أموالا طائلة, وفي الوقت ذاته يوفرون الحماية لنا". ماريا هي الأخرى تخطت عتبة الثلاثين, وفي حوزتها هي الأخرى أكثر من طفل مجهول الأب, لا تعرف إليهم سبيلا, إنها تناضل من أجل أسرتها القاطنة بهامش مدينة الرباط, فالأب مقعد والأم كفيفة, والإخوة معطلون, والجميع يعتقد أنها تعمل في شركة خاصة بالبيضاء. وبذلك تزورهم على رأس كل شهر حاملة إليهم ما يستعينون به على قضاء حاجيات "اليومي". "مساكين إنهم يقولون للناس إنني أعمل بالبيضاء, ولكنهم لا يعلمون أنني أبيع جسدي على مقربة منهم" تقول مريا وهي تتأمل دوائر سيجارتها الشقراء لتختم بطريقة من نال حظا معينا من التعليم "الفقر أصل كل داء".
من أبغض الحلال
إلى الخميسات لا صحيحة لا فليسات, كان السفر الجديد, لكتابة سفر آخر من أسفار القديد المملح, لقراءة تفاصيل الألم الرابض فوق أجساد نخرة تبغي وطء عوالم أخرى من المساومة والاعتراف!
كان خصرها هي الأخرى يحتزم مواخير لبيع اللحوم الملونة, ففي هامشها المقصي نبتت ديار بغير اتساق, تأوي فتيات في خريف العمر, هرب عنهن القطار وتركهن يمارسن الدعارة خطأ في زمن الأخطاء! هنا أيضا تكرر سيناريو العري مثلما حدث في الكاموني وتيفلت, فهذه تنادي عليك وتلك تجرك والأخرى تستجدي سيجارة! فجأة وجدتني في عمق بيت "متهدل", غادرته الحياة الكريمة, صاحبته تطلب الدفع مسبقا! اغتاظت كثيرا عندما سلمتها ورقة نقدية, ضحكت حتى لاحت أضراسها المتسوسة, ثم قالت "كان زوجي هادئا ومثاليا في البداية, لكن سرعان ما تغيرت أحواله, تحملت منه الأذى والإهانة, كان يستقدم العاهرات إلى البيت, حاربته بنفس السلاح, وخرجت إلى الفسادإلى أن اكتشف أمري مع صديق له فقرر الطلاق, ومنذئذ وأنا أمارس الدعارة.. زوجي هو السبب وطلاقي بداية المشوار".
بورصة اللحوم
فمسعودة التي سافرت كرها من أبغض الحلال إلى دنيا الحرام, كانت تشاركها هموم المهنة زميلة لها تدعى حليمة لم تتجاوز العشرين ربيعا أو خريفا بعد! فقد جاءت هذه الفتاة إلى هذا العالم خطأ كثمرة لعلاقة غير شرعية بين أمها الفقيرة وأبيها الذي لا تعرف إليه سبيلا, ولهذا نشأت في دنيا الفقر والفاقة, وكلها أمل في أن يحضر الفارس الوسيم الذي سوف يخرجها من ظلام الأيام, إلى أن غرر بها أحدهم, لتجد نفسها في "الحاجب" مجبرة على ممارسة الدعارة, وهي التي كانت تصدق "فارسها" وتعتقد أنه سيأخذها لزيارة والديه لاستكمال باقي ترتيبات الزواج! لتصدم في الأخير, وتعي جيدا بأنها بيعت في بورصة اللحوم..
حاولت حليمة أن تنفلت من قبضة ما وقعت فيه, ولكنها فشلت في أكثر من محاولة, لتستسلم أخيرا وتمتهن بيع لحمها لزبناء اللذة, وها هي ذي تستقر اللحظة بالخميسات تبحث عن "الصحيحة" و"الفليسات".
إن لم يعشقني
كرنفال الأجساد يواصل هديره الصاخب, ينفتح بنا على كل مظاهر الخلل الاجتماعي, تستمر نساؤه في حياكة زمن قاس يحكي هباء العابر, يفتح فاه وينصدم قبالة المحكي والمحاك!
الفقر, الفاقة, والأمراض الاجتماعية, وغيرها من ظروف لتنمية المعطوبة كلها تلقي بظلالها القاتمة على خط الدعارة "الكاموني", تيفلت, الخميسات, وعلى جميع خطوطها التي تمتد طولا وعرضا في زمن أخطائنا المغربي!
إنها مجرد حالات هاربة من ستار التلميع والتنظيف الاجتماعي, انشقاقات وتصدعات باذخة لم تنفع معها سبل التورية والإخفاء, تفضح كل الخطابات الوردية حول حقوق النساء في هذا الزمن! الميلودية, الفتاة القاصر, الحاجة, الشبان الثلاثة, فتيحة, ماريا, مسعودة, حليمة والوجوه المتشابهة الأخرى كانت تتراقص أمامي وأنا مستلق فوق كرسي بئيس بحافلة تقصد الرباط. لقد هدني التسكع في "سوبرماركت" القديد المملح, وغرس في أعماقي إحساسا فظيعا بالألم!
ضجيج الأسواق, رواق الجسد, احتفالات الثامن من مارس المناسباتية, ومشاهدة ماسخة للدعارة الرخيصة, تأخذني في ما قاله باكونين ذات مرة:
"وطني وإن لم يعشقني وأنا الذميم الجلف 
كعشق فتاة لفارسها الوسيم
لم يعد وطني 
إنه سجن بلا قضبان"
لما لفظتني الحافلة إياها عند نهر أبي رقراق, كانت الرباط تستعد للنوم, فقد ودعتها الشمس إلى يوم آخر, نحلم بأن تكون أكثر إشراقا ونقاء من الفائت! حينها تأكد لي بقوة صدق ما ذهب إليه سقراط في ذلك العهد البائد, فكل ما نعرفه هو أننا لا نعرف شيئا, نعم لا نعرف شيئا, فبالرغم من كل هذا الذي رقد طويلا أو قصيرا في الذاكرة, ستظل الدعارة "فعلا إنسانيا" له أسبابه ونتائجه, التي تفضح إفلاسنا المجتمعي! 
*******************************
عبد الرحيم العطري
مشاركة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق